كأس الهجرة
يذوق لبنان اليوم، كأس الهجرة من جديد. يذوق مرارتها اليومية، وكأنه في أواخر القرن التاسع عشر، و مطلع القرن العشرين.
تسيل الطرقات بالناس اليوم، كما سالت في أزمنة المجاعات. كانت تموت مع الدواب على الطرقات، من قسوة الجوع، ومن شدة العطش. تبحث عن حبة قمح وعن حبة شعير.
لم يتغير على الناس المشهد في شيء، بعد مائة عام. سوى أنهم يموتون مع سياراتهم، من شدة الجوع ومن فقدان البنزين.
“تعددت الأسباب والموت واحد”. يقول الشاعر. وأما أنا فأقول: تعدد الظالمون والظلم واحد. ومرتعه وخيم على الجميع.
عاد اللبنانيون اليوم، للكأس المرة، كأس الهجرة، يشربونها من جديد. يجدونها ثقيلة مترعة، كما لم تكن منذ مئة عام. كما لم تكن في زمن الآباء والأجداد.
كانت البواخر تصطف على المرافئ اللبنانية، فيخرجون إليها، زرافات ووحدانا “تركو/ Trko”، بلا فيزا، ولا جوازات مرور. يحلون ضيوفا على دنيا الله الواسعة، و”يخلفون الشقا على من بقا”، في بلاد المحن والإحن. في بلاد الأرز الخالد على الزمن.
زحوف اللبنانيين، كانت عظيمة للغاية. يركبون البحر، ثم سرعان ما يجدفون.
هجرات الزمن الغابر كانت تروى عنها الروايات. وكانت تحكى عنها الحكايات. فأنعشوا البلاد التي قصدوها، وعمروا شوارعها حارات حارات. وبنوا مصانعها، وأثروا جامعاتها ومستشفياتها. أثروا أسواقها. ونقشوا على الأثير أنفاسهم، مطبوعة بأنفاس الأرز. معطرة بعطر الشوح والشربين واللبان، وبضوع زهر الليمون والزيزفون والبيلسان.
المهاجر اللبناني في أول القرن، غيره في آخر القرن. صار البحر يعد له التوابيت وقوارب الموت.
تغيرت الدنيا عليه. فلم يعد مرحبا به. لم يعد يحمل على ظهره الكشة. لم يعد يحمل بين يديه القلم والدواة. صار ملوثا بالدم.
لم تعد المطارات ترحب به. صاروا يخافونه. صاروا يخشونه. عاد لبنان تحت حكم طالبان. تخلى عنه الناس، في جميع أرجاء الأرض. لم يعد دولة قمينة بالحكم.
اللبنانيون يذوقون كأس الهجرة اليوم، كما لم يذوقوها من قبل.
صار جواز السفر مصيبة على رؤوسهم. صارت جميع الدول، تنظر إليهم بحذر. صارت دول العالم، ترى في لبنان، بلادا خارجة على القانون. بلاد عصابات. بل بلاد العصابات، من كل جنس، ومن كل لون. بلاد السلاح. بلاد المسلحين بلاد، يخرج منها الشباب، بالأسود والأبيض من الأكفان. يريدون تطويع العالم. إرهابه، بكل أنواع الفؤوس.
كأس الهجرة المترعة، الشديدة المرارة، هي الكأس اليومي للبنانيين.
هاجر أساتذة الجامعات. هاجر المهندسون. هاجر الأطباء والممرضات. هاجر الأساتذة الثانويون.
هاجر أرباب العمال وأصحاب المصالح. هاجر المدراء العامون. هاجرت القطاعات. هاجر رأس المال. هاجرت الأدمغة. ولم يبق في لبنان إلا لصوص الهيكل، والشطار والعيارون، وأصحاب السوابق والمفسدون.
وأما اللبنانيون الذين تحملوا من الظالمين، ما لم يتحمله شعب، فيضرعون بلسان الفادي: “أبتاه، إدفع عني هذي الكأس.!”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية