قراءة نقديّة في شعر القسّ جوزيف إيليا
( بقلم د. دورين نصر )
لو أراد القارئ أن يتتبّع نتفًا من حياة القسّ جوزيف إيليا لأمكنه ذلك، وهو بصدد قراءة هذه المختارات الشعريّة، كونها تعبّر عن تحوّلات الذات، مع أنّها تشكّل في سياقها العام وحدة كليّة، حيث لا انفصال بين الذات والعالم، الأنا والآخر.
ثمّة قصائد في المختارات تقوم على تقنيّة الأسطر المتّصلة والإيقاع التدويري مثل: “أنا أحبّ هذا العالم”، “يرهقني”، وغيرها…وثمّة قصائد أخرى تقوم على تقنيّة تقطيع الأشطر، وتلتزم بوحدة الوزن والقافية والروي، وهو شأن معظم قصائد المختارات، نذكر منها: قلمي، أشباح الأمس، الفكرة الهاربة…
هذا التنوّع في الأداء الشكلي للقصيدة لدى “جوزيف إيليا” ناشِئ عن تنوّع مضامينه. جوزيف إيليا لا يتفلسف “ولا يتصوفن”، بَيْدَ أنّه لا مناص من الاستعانة بالفلسفة وتجربة التصوّف، حيث الأسئلة التي لا تكاد تتوقّف، عن تعقيدات الصورة والمعنى، الباطن والظاهر، في تجلّيات الأشياء والأشخاص والعالم والطبيعة، عبر جدليّة الاستغناء والإصفاء. فثمّة توق للعالم الأثيري، وحوار لاهوتي يجري تشكيله من مجموعة من الصور؛ فيقول في قصيدة “دعني للديّان”:
يا من تطعَنُ في إيماني
من أعطاكَ عصا السّلطان؟
حتّى تنهالَ بها فوقي
وتُجفّفَ بسمةَ بستاني
وتُخرّسَ عصفورَ غنائي
وتُشقّقَ صخرة بنياني؟
ويُردف قائلاً في قصيدة “دع الموتى لموتاهم”:
دَعِ الموتى لموتاهم
وقُمْ مستنكِرًا موتَك
لك الدنيا فعِشْ فيها
قويًّا مطلِقًا صوتك
وفي قصيدة “يجيء الأحد” يقول:
يجيءُ الأحد
لا أحدْ
للمكان المقدّسِ جاءَ
ليحييْ شعائرَ مجدٍ
لربٍّ عظيمٍ قديرٍ أحد
وكاهنُه وحدَهُ واقفٌ فوق مذبحِهِ
فكرُه شاردٌ
صوتُهُ خافتٌ
وترى عينُه من مكانِها تتهاوى
وتغدو رمادًا يذيقُ العيونَ رَمَدْ
إنّ العالم الذي يتحرّك فيه مثل هذا الشّعر، يتأرجح بين الواقع والحلم، الحياة والموت. وهو لا يُدرك بالمعرفة التجريبيّة وإنّما بالاستبصار. فيشعر المتلقّي أنّه أمام عالمين: عالم يومي ملموس لكنّه يبقى غير مفهوم، وعالم آخر يُشعَر به، واضح في تجليّاته الداخليّة كما لو إنّه أقوى من مظاهر الوجود حولنا. بالتالي، فإنّ تجربة الشّاعر الروحيّة الداخليّة تُشعّ وتضيء دون توقّف، فتُفصح عن جماليّتها عن طريق قدرتها على الإصفاء والاستبصار. فقصيدته قصيدة إصغاء إلى الوجع الساكن في الأعماق، فيقول في نصّ “يرهقني”:
يُرهقني
أنّي انكسرتُ عند أبوابِ غدي
وعدتُ أدراجي
إلى مستنقعات لغتي القديمة
التي تعفّنت
وصارت وجعًا مسافرًا في الخاصرة
في هذا العالم الذي يبدو مارقًا بين المادة والدّهشة، تتكاثر الأسئلة، وهي معادل موضوعي للحَيرةِ والدّهشة معًا، إذ يقول في قصيدة “لستِ منّي”:
لستُ هنا
من قال:
التي غفت على وسائدي وشَوّهَت فمي
وأتْعَبَت أجنحتي
هي القصيدةُ التي أريدُها؟
لا
لستِ منّي
فأنا أنا
وأنتِ امرأةٌ يابسةٌ
لا تلدُ المعنى وشهوتي
ولا ما أبتغي من الصّراخِ
فارحلي عنّي
وقولي ما أقولُه أنا:
لستُ هنا
لقد بات المعنى عقيمًا، من خلال تأكيد إثبات هوية الباطن، فلا ترهّل معجميّ عند الشّاعر، وإنّما عودة إلى التأمّل الرصين في الذات والعالم.
ووسط هذا الالتباس الوجودي، تبدو “الأنا” روحًا كليّة جامعة لما سواها وما حولها، ما يجعل القبض عليها ليس بالمهمّة السهلة، ولكن الأصعب منه بَثُّها فيما سواها. حضورها المتعدّد في الآخر، والأشياء واستعادتها من جديد بعد أن تحوّلت إلى “أنا” جمعيّة مثقلة بالعالم ومستغرقة في استيعاب الآخر.
فالشّاعر جزء من هذا العالم الخارجي، يعيش أفراحه، ويتحسّس آلامه، وهو في عمليّة بحث عن المعروف/المجهول الذي يتجلّى في ثنائيّة الغائبة/المخاطبة، في عبارات يلتبس فيها الخطاب بالغياب، إذ يقول:
لا لستِ منّي
فأنا أنا
وأنتِ امرأةٌ يابسةٌ
وقد برزت عند القسّ “جوزيف إيليا” النزعة الإنسانيّة حيث أظهر الجانب الذاتي المتجذّر بقيم الأرض. وكأنّ أرض الوطن مادّة أحلام لا سيّما على مستوى تحقيق حلم المساواة بين جميع أبنائه، يقول في قصيدة “سأمضي”:
سأمضي
إلى وطنٍ
فيه يُبلى رداءُ الجنون
ومن الصّخر فيه
سينبتُ لي حقلُ قمحٍ
وغاباتُ زيتون
والواقع، إنّ هذه النزعة الإنسانيّة العميقة نابعة من وطنيّة الشّاعر وقوميّته، فهو يبشّر بالقيم الفاضلة التي تخدم البشريّة كلّها. هذه القيم متجذّرة في كيان الشّاعر، إذ أحبّ أرض وطنه ثمّ أحبّ الإنسانيّة من خلال ذلك الحبّ. يقول في قصيدة “لساني سلاحي”:
أنا من لهُ الطريقُ
ولا دامَ ما يعيق
سأمشيه واثبًا لن
يصُدَّ الخُطى حريقُ
سلاحي هنا لساني
فمَ الخُرْسِ لا أُطيقُ
الإنسان بالنسبة إليه قيمة حضاريّة وروحيّة، بالتالي يأتي الشّعر صادقًا كأنّ الشّاعر أمام مرآة ثابتة، وحاجة تفرضها الذات المتعطّشة إلى لقاء الآخر لقاءً إنسانيًّا.
والمحبّة عند الشّاعر نابعة من استعداد داخلي أصيل يجذبنا نحو الآخر بحاجة ملحّة، ولا خير في محبّة تُضمر نزوة أو رغبة في امتلاك آثم أو تُظهر مَلقًا رخيصًا.
فنفسُه رقّقتها المحن، وباتت عنده متأصّلة في روحه الإنسانيّة الساميّة، غير أنّ الواقع المرير يُكدّرُها إذ يقول:
وحدَك تمشي في شوارعَ خَلَت مِمّن عرفتُهم
وكنتَ صادقًا تُحبُّهم
وتشربُ الشايَ اللّذيذ معهم
وقد مضوا عنكَ بعيدًا
أيُّها المنسيُّ ها هنا كخِرقةٍ عتيقةٍ
ولا شيء بكَ الآن قويٌّ حيٌّ
الشّاعر يؤمن بالمحبّة سبيلاً إلى تحرّر الإنسان في وطنه من الحقد والنّفاق والبُغض. فالإنسان عنده يرتقي ويسمو، لكنّ المآسي كانت أشدّ بروزًا ما جعله يشعرُ بالخِذلان، يقول في قصيدة “أمَّتي قاتلتي”:
وسَقتني مُرّةً كاسها
وقِلاعي ضربُها باسَها
لم تَهبْني ثوبَها ناعمًا
وطَلَت بالوحل أعراسَها
أطعمتني خبزَها حامضًا
للبرايا أخفضَت راسَها
أمّتي قاتلتي أطلقَت
في ربوعِ الطّهرِ أنجاسَها
أمّةٌ نامت متى صحوُها
ومتى تنهرُ إفلاسَها؟
كان أمله أن تسود المحبّة والإخاء والتسامح على أرض الوطن كي تتّسم الوحدة والقوّة بين الجميع للتفرّغ إلى مجابهة من يريد الإيقاع بأرض الوطن وسلب خيراتها وقيمها.
فيصرخ في قصيدة “ثوروا” صرخةً تخترق الأعماق وكأنّها صدى لصرخة “الشّاعر القرويّ”، أشهر أدباء المهجر، فيقول:
ثوروا فأوطانُنا شاخت مفاتنُها
إذ كلُّ شيءٍ بها بالٍ ومكسورُ
الواقع، إنّ هذه النظرة الإنسانيّة العميقة عند الشّاعر تنبع من روح المحبّة والرّحمة والحنان التي يفيضُ بها قلبُه. كما تنبع من وطنيّته وقوميّته، وكانت هذه نزعة أدباء المهجر الجنوبي. الشّاعر ذو رؤيا ثاقبة، يرى تجليّات الوطن في كلّ شيء معيدًا إنتاج الأرض وحضورها الكونيّ؛ وبذلك تصاغرت في نظره كلّ أرض سوى أرضه.
و”جوزيف إيليا”، في التفاتاته الاجتماعيّة والوطنيّة، وصف ذاته وحقيقة معاناته من مُصاب الإنسان بعامّة، وهذا ما يُفسّر الحزن الشفيف الذي رصّع به معظم قصائده حين امتزجت عنده الوطنيّة بالوجدانيّة، وتداخلت “”أناه” بـ “أنا” الجماعة. فلم يكن غريبًا عن أيّ تجارب نفسيّة وحياتيّة قاسية كانت كفيلة في جعل الآخرين مرآة ذاته.
كما تعدّدت دلالات الكلمات في شعره وارتبطت بكثير من معاني الحزن العميق والشّجن، حتّى غدت كيانًا نابضًا بالحياة والعواطف والذّكريات، يتجاوز مدلول الكلمة اللّغويّ أو البيانيّ المعهود إلى مدى بعيد. وقد حاول الشّاعر من خلال القصيدة أن يلملم شظايا نفسه المبعثرة لعلّها تعوّض صورة الوطن التي انكسرت في ذاته وعجز عن استرجاعها إلاّ من خلال الشّعر. فهل يمكن للقصيدة أن تلملم أجزاء الوطن المكسورة؟
قراءة عميقة ورصينة. النّاقدة البديعة د. دورين نصر سعد.
خالص التّحيّة والتّقدير لحضورك الرَّاقي، وقراءتك الموغلة في فضاءات عوالم الشّاعر المبدع القس جوزيف إيليا.
دمتِ متألِّقة