العد العكسي
( مقالة اليوم بقلم د. قصي الحسين )
-×-×-×-×-
كنت ألتقي عصر كل يوم بطرابلس، بالزميل الدكتور حسين معصراني، في مقهى “نيغريسكو” على بولفار المدينة في منطقة التل. إعتدت الجلوس فيه، للقراءة و للكتابة وللتحرير.
إحتل الزاوية الأولى من اليمين، عندما نقصده من ساحة التل. إنبسطت واجهاته الثلاث إلى البولفار. وتراجع خلف رصيف عريض، تحرسه ثلاث نخلات باسقات، من النوع المعروف بالمروحة. شكلت بنايته في السبعينيات، زهرة العمارة الحديثة بطرابلس
كنت أشعر وأنا في داخله، بالراحة والإطمئنان. قريب من مكتبي في شارع الثقافة. أعود إليه للترويح عن النفس. ونفض الكتفين من عبء الكتب التي كنت أحملها إليه، كمراجع. فهناك، على طاولته الأنيسة، كنت لا أشعر بالملل ولا بالكسل، ولا بمشاق العمل.
كنت أحجز لنفسي طاولة بين جدارين من الزجاج، يصل واحدهما إلى كتفي، حين أجلس، وأسند ظهري لمسانده المريحة.
كان زميلي الدكتور حسين معصراني، إلى شمالي، لأنه كان يريد أن يستقبل الوجوه من الباب الزجاجي العريض. لأن طاولتي، كانت في الزاوية الجنوبية. أما الزاوية الشمالية، فكانت لموظفي مكتب الإنعاش الإجتماعي في الشمال.
كان رواد المقهى يعرف كل واحد منهم مقعده. كما يعرف مقاعد سائر الرواد. فلا يتعدى أحد على مقعد غيره، إلا إذا كان عابر مقهى.
وكان على طاولة الدكتور معصراني عادة، “دفتر الدروس” الذي خصصه لنفسه، منذ إلتحاقه بكلية إدارة الأعمال- الفرع الثالث، لأول مرة. وظل دفتره الوحيد بين يديه حتى بلوغه سن التقاعد. أما الكتاب الذي كان يضعه بإزاء دفتره القديم، فهو: Le Fable De Lafontaine.
كنت أسبقه أو يسبقني إلى المقهى. كان يرى أمامي عشرات الكتب التي حملتها معي، مراجع للبحث الذي أشتغل عليه. بالإضافة إلى جميع الصحف الصادرة يوميا في بيروت.
كان يبتسم حين يراني، أهم بالدخول، وهو يحتل الواجهة، أو حين أكون قد سبقته للمكوث. كان يرفع يده للتحية. وكانت كلمته الأولى لي كل يوم: “إرحم شبابك.” يريد: أني احمل نفسي أكثر مما تحتمل.
كان الزملاء قد أطلقوا عليه إسم: “حسين الأوروبي”، لإناقته وحسن هندامه، الأوروبي الزي. ولحديثه الدائم، عن تجربته الفرنسية، وصديقاته الفرنسيات. فكان دائما يعيد على مسامعي أسماءهن.
فقد أمضى قسطا عظيما من عمره في باريس. وحين عاد للتدريس في الجامعة، كان يحافظ على زيه الأوروبي، من خلال ثلاثة أشياء: جريد L,orion De Jour التي يتأبطها. و Le Fable De Lafontaine/ لافونتين الذي محا تقادم عهده معظم حروفه، وساعة الجيب التي يزين بها “سانتير” أوروبي من الجلد على خصره.
أمضى حسين معصراني زهاء 24 سنة في التدريس الجامعي بطرابلس. ما غير دفتره الذي يحمله ولا كتابه. وكان إلى ذلك كثير الأدب و التأدب. لا يخالط زملاءه. يبش لهم. ويحرك يده لتحيتهم. وقلما فكر بمصافحة أحد.
جعل دروسه يومية، في الجامعة. يذهب منذ الصباح إليها، ويعد منها ظهرا. فما إستراح يوما. ولم يأخذ “السنة السابعة” للإستراحة. كان يقضي معظم وقته مع طلابه. يرى فيهم إمتدادا لقامته الممشوقة، حتى نهاية العمر.
وكان يستقل “تاكسي- ملص”، من جوار بيته. ما غير السيارة ولا غير صاحبها طيلة ربع قرن. وهذا ما يدل على وفائه، وعلى تعلقه بعهوده القديمة، دون كثير من التغيير. كذلك لم يتخل عن زيه الأوروبي. كان يصغي بإهتمام بالغ لمن يسمعه يناديه ويلوح له من بعيد بإسم “حسين الأوروبي”: طقم رسمي، بكامل عناصره، وساعة مدلاة منه. ومحرمة، على شكل ورقة اللوتس في جيب الجاكيت: بيضاء أو صفراء أو خضراء أو حمراء، إمعانا في المحافظة على زيه الأوروبي. وطقم إفرنجي منضد نظيف.
لم يدخل إلى بنك. ولم يقبض راتبه بنفسه، كما كان يقول لي.
أمضى عمره عازبا، بجانب أختيه العذباوات. وكانت إحداهن موظفة في الكلية التي يدرس فيها في الجامعة. فكانت تحمل راتبه كل شهر، وتتصرف به. وكانت إلى ذلك تنفحه بيده، حاجته من النقود كما كان يقول: لفنجان قهوة ولجريدة ولأجرة تاكسي. فإذا ما فاضت نقوده، كان يدخل عليه أحد من باعة الكشة ظهرا، او عصرا، فيحمل منه الساعة البراقة. او الساعتين. أو السبحة الصينية الزجاجية المذهبة. ولهذا كنت أرى في كل يد من يديه الإثنتين، من كوعه، إلى بوعه، أكثر من ساعتين. أسأله عن ذلك، فيجيب بكل بساطة: “شو بعمل فيهن”.
ما برحت أنا وصديقي د. معصراني المقهى حتى إغلاقه. لكن إغلاقه، تم بعد وصول الدكتور حسين معصراني إلى سن الستين. شعر منذ ذلك اليوم، أنه إقترب من نهاية الخدمة. فكان كلما رآني منذ ذلك الوقت المبكر على سن التقاعد، يستقبلني بكلمة واحدة: “بلش العد العكسي” يا دكتور. كانت هذة الكلمة لا تفارق فمه، وهو غير مخالط أصلا. غير أنه كان يشعر بثقل العمر المداهم عليه. كما يشعر بثقل عمر التقاعد.
حمل الدكتور معصراني هم التقاعد قبل أربع سنوات من وقوعه مصيبة عليه. كان يتنهد لكل من يمر به، ويحييه هامسا أو لامسا: “بلش العد العكسي” .
ولتكرار هذة العبارة أمام الزملاء وأمام المعارف، صاروا إذا مر على طريق، ينادونه: “العد العكسي”. صار إسمه في هذة المرحلة الستينية من عمره: “العد العكسي”، شاطبا بكل عنف لقبه الذي عرف فيه في الجامعة: الدكتور حسين الأوروبي.
خرج د. معصراني إذن من الكلية بالسن. ونسي الناس إسمه الأول وإسمه الثاني، حسين الأوروبي. وصار يعرف ب”العد العكسي”. فكل من يشاهده مقبلا أو مدبرا، يهمس قائلا، أقله في قلبه، ” هوذا العد العكسي”.
كنت صباح اليوم أتصفح الصحف الصادرة في بيروت. إستوقفني عمود للكاتب( نون…) كما وقع في أسفله، وعنوانه: “العد العكسي ” بدأ للمنظومة الحاكمة”: “اللواء21/8/2021، ص8”.فتهيبت الأمر، أن يظل للمنظومة الحاكمة أربع سنوات أخرى للحكم منذ الآن. لأن صديقي وزميلي د. معصراني، أطلق ذلك على نفسه قبل نهاية خدمته بأربع سنوات!.
حقا، خشيت على نفسي من ذلك. فهل سنظل ننتظر زهاء أربع سنوات، كما إنتظر د. معصراني، حتى ينتهي “العد العكسي”.
فماذا نقول للمنتظرين إذا، أمام محطات البنزين منذ أول الليل. أمام أبواب الصيدليات. أمام محطات النقل أمام أبواب الأفران. أمام صنابير الماء. وأنا واحد منهم.
ماذ نقول للرئيس نجيب ميقاتي، الذي ينتظر، منذ تكليفه. ماذا نقول للجندي، الذي فقد رغيفه. ماذا نقول لأهالي الشهداء في المرفأ وفي التليل. ماذا نقول للطفل الجائع وللعجوز الجائع وللمريض، الذي إنقطع عنه الأوكسجين، وهو يشهق: إني أختنق. كما إستغاث جورج فلويد، قبل أن يختنق.
أي عد عكسي هذا، ذاقه الدكتور حسين معصراني، يوم ذاك، منذ نصف قرن، “وحسبه من غنى شبع وري”.
فما بالنا لا نزال ننتظر، والناس في الطرقات تأكل بعضها بعضا.
كنت في السادسة من صباح اليوم بصحبة ناطور البناية “أبو دياب” نبحث عن صنبور ماء في تلة الخياط.
حانت مني إلتفاتة إلى دولاب سيارتي، فوجدته وقد “حط” قليلا. شهقت مستغيثا وقلت: “يا صباح الدولاب”. خشيت أن تقطع السبل بي صبيحة هذا اليوم ، والساعة السادسة. السادسة.
سريعا، عدت إلى البيت. أنزل أبو دياب حمولة السيارة من غالونات الماء، وعددها واحد وعشرون. وأسرعت إلى “الكومجي” كمال يموت، مقابل الفاكهاني في شارع ليون. طلبت منه فحص الدولاب.
فك صديقي كمال يموت الدولاب. وحين سألني أين أسكن، قلت له في شارع يموت، قرب السفارة البريطانية التي ذهبت للهدم. إلتمست لنفسي التقرب منه، حتى يشفع لي. فإبتسم لي، وهو يعيد تركيب الدولاب، يقول لي إنه جيد. وهو حاطط لطول الزمن عليه واقفا لايدور، من شح البنزين. فإرتحت لشهادته. رددت على إبتسامته، بإبتسامة. ثم قلت له: ما تريد: قال عشرون ألفا.
قلت في سري: حقيقة أنا حسين معصراني بعد تدريسي في الجامعة لنصف قرن. سهوت عن بدء العد العكسي”، حتى صرت أنا نفسي دكتور “العد العكسي”… حتى صارت الحكومة، حكومة “العد العكسي”. حتى صار لبنان: “لبنان العد العكسي”.