بانتظار الافراج عن مذكرات الشاعرة وسيرتها الخبيئة في الأدراج
سنية صالح ومحمد الماغوط : الشعر المنتصر والحياة المهزومة
كتب الشاعر شوقي بزيع :
ترددت كثيراً قبل الشروع في الكتابة عن التجربة الحياتية الخاصة التي جمعت بين الشاعرة السورية سنية صالح وبين محمد الماغوط , أحد أبرز رواد قصيدة النثر في العالم العربي . ولم يكن ذلك التردد متعلقا بالشعر نفسه , وهو الذي أكسب العلاقة بين الطرفين مسوغها الأعمق والأهم , بل كان مرتبطاً بالمحاذير المترتبة على اقتحام الموضوعات ” المحرمة ” في عالم عربي ما يزال يلح على الاعتقاد بأن العلاقات الزوجية هي شأن عائلي وغير قابل للانتهاك . ولكن ما دفعني الى تجاوز هذه الاشكالية هو كون الماغوط وسنية ليسا شخصين عاديين لكي يتم إسدال الستار خلف شؤونهما الشخصية , بل هما شاعران متميزان , ولا ضير بالتالي من الوقوف على تفاصيل سيرتهما الشخصية والأدبية , شأنهما في ذلك شأن معظم شعراء العالم وكتّابه ومبدعيه . والواقع أن معظم المعطيات والتفاصيل المتصلة بالعلاقة المأزومة بين الثنائي الشعري , لا تأتي من جهة الزوج والزوجة بشكل أساسي, بل هي مستمدة من مصادر أخرى قريبة من الطرفين , ومن بينها ما أوردته خالدة سعيد من إشارات وتلميحات دالة على متاعب شقيقتها ومعاناتها الحياتية القاسية , خلال تقديمها المسهب والعميق لأعمال صالح الشعرية , إضافة الى السيرة الجريئة والمترعة بالتفاصيل التي وثّق من خلالها عيسى الماغوط لحياة أخيه منذ النشأة حتى الوفاة , والتي ضمنها مواقف وفصولاً من حياة الزوجين . وحيث لا تخلو بعض تصريحات الماغوط من إشارات مختلفة الى الغيوم السوداء التي تظلل مسرح علاقته بزوجته , فإن سنية , التي اتسمت منذ نشأتها بالخفر والصمت , آثرت الانكفاء داخل نفسها والاكتفاء بالشعر كعلاج وحيد لشعورها الممض بالوحدة . على أن ما لا ينبغي إغفاله في هذا السياق هو تأكيد خالدةعلى أن سنية قد تركت سيرة حياتها في عهدة ابنتيها شام وسلافة , وأنهما تملكان وحدهما حق الاحتفاظ بهذه السيرة في الأدراج , أو دفعها الى النشر .
في كتابه السردي المميز “محمد الماغوط \ رسائل الجوع والفقر” يكشف عيسى الماغوط عن جوانب خفية وهامة من سيرة أخيه الأكبر, وعن الظروف القاسية التي أحاطت بطفولته وصباه المبكر . إذ تُظهرفي هذا الكتاب الخلفية الاجتماعية البائسة لحياة الشاعر, الذي اضطر بسبب العوز الشديد للعائلة الى ترك مقاعد الدراسة للالتحاق بأحد المعاهد الزراعية , دون أن تمكّنه موهبته الشعرية والنثرية من الانتقال الى ضفة الثراء والرفاهية . وإذ يحرص المؤلف على إظهار الجانب القاسي من سلوك الماغوط , الذي اتسم منذ الطفولة بالميل الى العنف والعراك مع الآخرين , فإنه يحرص بالقدر نفسه على ربط ذلك السلوك برفض أخيه الأكبر للواقع الصعب والمهين الذي عاشه منذ صغره , وهو ما دفعه الى الثأر لكرامته المجروحة , لا عبر شعره ” البري ” المتفرد فحسب , بل عبر قدر غير قليل من المزاج المتقلب حنوّاً وعصفاً , ومن فائض العنف الذي كانت علاقته بزوجته أبرز ضحاياه .
لم يعمد عيسى الماغوط في كتابه الهام الى التورية والغموض وارتداء الأقنعة , للحديث عن العلاقة الشائكة والصعبة التي كانت تربط محمد الماغوط بزوجته . إلا أن اللافت هنا هو حرص المؤلف على الوقوف في مكان وسط بين الزوجين المحكومين بالقلق والتعاسة وسوء التفاهم المزمن . فهوينقل عن أخيه امتعاضه الشديد من فشل الزوجة في لعب دورها كأم لطفلتين , ومن الامتناع الكلي عن إرضاع طفلتيها الصغيرتين , رغم إلحاحه وتوسلاته , معترفاً لأخيه بأنه نقل رغبته المقموعة الى الشعر , حيث أشار في غير قصيدة له الى أن الرائحة المنبعثة من حليب الأم ,هي واحدة من أكثر الروائح التي تملك تأثيراً عليه . كما يطلعنا المؤلف على تذمر الماغوط المستمر من تقاعس سنية عن القيام بأبسط واجباتها الزوجية , وفي ما يشبه التسويغ الضمني لمواقف الشاعر ولردود فعله القاسية , يصف عيسى متاعب أخيه المزمنة بالقول ” قضى عمره وهو يشعر أن الجوع ينبض في أحشائه كالجنين . ورغم أطنان الطعام والطناجر والصحون بقي جائعاً . قال لي مرة إنه لم يشم رائحة طعامٍ يُطبخ في بيته قط , وأنه يبحث عن ثيابه فلا يجدها “. ولكنه لا يتردد من جهة ثانية في الكشف الصريح عن أن زيارة المؤلف العائد من الخدمة العسكرية الى منزل أخيه الأكبر , هي التي تسببت بالعراك الجسدي بين الطرفين , معترفاُ بأن ذلك العراك العنيف قد انتهى بكارثة مروعة , تمثلت بإجهاض سنية , التي كانت حاملاً في شهرها التاسع ” لمولودها المرتقب .
ومع أن عيسى الماغوط قد حاول جاهداً أن يُظهر العديد من الجوانب الايجابية في شخصية أخيه , كالاشارة الى حرصه المستمر على تقديم المساعدة المادية للعائلة , متى استطاع الى ذلك سبيلاً , والاشارة المماثلة الى أن الماغوط قد رفع عالياً سقف أحلامه , الى حد القول ” سأكتب أشياء لم تحلم بها عذراء , ولا أمة في بلاد أخرى ” , فإن عقدة الأخ الأكبر ما تلبث أن تظهر جلية في السيرة , حيث لا يتردد عيسى في الحديث عن نرجسية أخيه الفاقعة , كما عن تعامله معه باستعلاء ظاهر , رغم أن الأخ الأصغر المحال على التقاعد , كان قد اتخذ قراره الحاسم برعاية أخيه الذي أقعده المرض وأصابه بالكآبة والاحباط . وقد نقل المؤلف بالكثير من المرارة قول الماغوط له , وقد طلب إليه أن يحضر إحدى المناسبات التي تخصه ولم يساعده اعتلال صحته على حضورها ” إذا ذهبت لحضور العرض , وتقدم بعضهم للسلام عليك , فلا تقل إنني أخوك “. وهي الحادثة التي يقول عيسى بأنها دفعته الى الابتعاد عن أخيه المريض حد الانهاك , بعد أن أصيب بجرح بالغ في كرامته , قبل أن يُقر بالندم على ذلك الابتعاد , لأن رحيل الشاعر اللاحق عن هذا العالم قد حال بينه وبين إصلاح الأمور .
أما خالدة سعيد , وهي الأخت الكبرى لسنية , فلا تعتمد في تقديمها لأعمالها الشعرية الأسلوب المباشر نفسه الذي اعتمده عيسى الماغوط في روايته للأحداث , ليس فقط لأن خالدة لا تريد صب المزيد من الزيت على نار العلاقة الصعبة بين الزوجين , بل لأنها كانت تتوخى الايغال في تجربة الشاعرة الموغلة في العزلة , والتي لم تأخذ حقها من الاهتمام النقدي , ولم تكن تهدف الى تقديم روايتها الخاصة لسيرة العائلة . ومع ذلك فإن القارئ لن يبذل كبير جهد لكي يقف على الوحشة المزمنة التي تلف حياة سنية صالح , وعلى المآل المتوتر للعلاقة العاطفية التي جمعت بين الشاعر المكرس والشاعرة اللائذة بصمتها الخفر , بعد أن أخلى الحب المشتعل نيرانه لرماد الزواج . فخالدة التي تتحدث عن تضحيات سنية البالغة في سبيل الماغوط , أثناء مطاردته وسجنه من قبل السلطات , تشير في الوقت ذاته الى أن سالبين اثنين لا يصنعان زواجاً ناجحاً , إذ أن أختها التي نشأت في ظروف عائلية شديدة القسوة ” كانت تطلب من الحب ما تطلبه من الشعر ” , وتريد له ” أن يكون ثأرها من العالم وحصانها السحري للنجاة ” , فيما كانت للماغوط القادم بدوره من بيئة الحرمان والشظف , محنته وثاراته المماثلة . وإذ ترى الناقدة بأن الحب الذي ربط بين الطرفين كان فيه من العنف بقدرما فيه من الحنان , تعتقد بالمقابل أن الشعرهو الضوء السري الوحيد الذي كشف لسنية هول الواقع الذي تعيشه , بقدر ما قدم لها معاني الوجود الخلاصية . فهو وفق خالدة ” ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق ,والمسحوق عبر التاريخ . وهو صيحة جسد الأنثى ونبع الحياة الذي عَبر فوقه الأباطرة والبطاركة والآباء والأزواج والغزاة والمحاربون والنخاسون .
كما أننا لن نعثر , ونحن نقرأ أعمال سنية صالح الشعرية , على ملامح الشاعرالمتفرد الذي عشقته صالح بكل ما تملكه من شغف , حيث لا ينضح من قصائدها سوى الشعور الممض بخواء العالم وغربة الكائن الانساني , باستثناء جُزرالفرح القليلة التي نجت من الطوفان , والتي تقتصر على أختها خالدة وابنتيها شام وسلافة , دون أن نتبين بينها ملامح الزوج . ومع ذلك فإن إيمان سنية بمكانة زوجها الابداعية الاستثنائية لن يتزعزع أبداً , وهو ما يُظهره تقديمها الناضح بالاعجاب لأعماله الشعرية والمسرحية التي صدرت في سبعينيات القرن المنصرم , والذي جاء فيه ” يعتبر محمد الماغوط من أبرزالثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل . دخل ساحة العراك حاملاً في مخيلته ودفاتره الأنيقة بوادر قصيدة النثر كشكل مبتكر وجديد , وحركة رافدة لحركة الشعر الحديث . وحين كانت الصحف غارقة بدموع الباكين على مصير الشعر , نشر قلوعه البيضاء الخفاقة فوق أعلى الصواري ” .
أما مسألة المنافسة الشعرية بين الزوجين فلم تكن واضحة تماماً , خاصة وأن سنية بما تحمله منذ نشأتها المبكرة من سمات الخفر والتواضع , لم تكن تطمح الى احتلال الحيز الذي يتجاوز رغبتها في البوح والكشف عن مكنونات نفسها المعطوبة , ولم تتعامل مع الزوج ” النجم “, رغم موهبتها الواضحة , بأي نوع من التنافس أو الندية . إلا أن الحوار القصير واللافت الذي أجراه الماغوط مع زوجته في أحد أعداد مجلة ” مواقف ” , إثر صدور مجموعتها الثانية ” حبر الاعدام ” يتسم بشكل واضح بالبرودة وغياب الحماس , بل يكاد يكون أقرب الى التوتر , والى مضبطة اتهام واضحة بحق صالح . وهو ما يؤكده سؤال الماغوط لسنية ” ألا تشعرين بتأنيب الضمير وأنت تكتبين بمعزل عن قضايا أكثر أهمية وإلحاحاً من عذاب امرأة غير متآلفة مع بيئتها ؟ ” , أو سؤاله ” العدائي ” الآخر ” هل أمعنت النظر ذات يوم في وجوه العمال المقطبة ؟ هل رأيت مشرداً يأكل فضلات على الرصيف ؟ . غير أن سنية التي لم تكن طفولتها أقل شظفاً وشقاء من طفولة الماغوط , لم تستطع سوى رد كرة الاتهام الى المرمى الذي انطلقت منه , فأجابت بالقول إن عذابات المرأة التي يشير إليها , هي أيضاً من صلب الواقع الذي يتهمها بالانعزال عنه , ثم تضيف بنبرة اتهام مضادة ” ولماذا أنت تمد ذلك الليل البشري بيني وبين الأشياء المضيئة ؟ ” .
لم تكن غاية هذه المقالة , أخيراً , أن ترفع مضبطة اتهام دامغة ضد أحد المؤسسين الكبار لقصيدة النثر العربية , بل هي تهدف الى إظهار الفارق الشاسع بين ما تقترحه مخيلات الشعراء على البشر من تجليات الجمال المدهش , وبين ما يتسمون به على أرض الواقع من نزق الأمزجة وغرابة الطباع والسلوكيات . إنهم في الأعم الأغلب عشاق رائعون وأزواج فاشلون . وهو ما تؤكده تجارب العديد من الثنائيات العاشقة التي أفضت بعد الزواج الى مأل كارثي . وإذا كانت سيلفيا بلاث قد وجدت خلاصها النهائي عن طريق الانتحار , فإن السرطان الخبيث هو الذي تكفل بالمهمة نفسها لدى صاحبة ” الزمان الضيق” . أما محمد الماغوط فكان عليه بمساعدة الكتابة أن يتعايش مع غياب زوجته المأساوي والمبكر. ومع شعوره المؤلم بأنه لم يعبّر عن حبه لها بما يليق من الكلمات , راح يستعيد في روايته “الأرجوحة ” صورة ” غيمة ” التي هطلت كالمطر على صحراء الشاعر المثقلة بالوحشة والخوف , مثلما راح في كتابه ” سياف الزهور ” يهتف بالزوجة الراحلة ” كل من أحببت \ كنّ نجوماً تضيء للحظة وتنطفئ الى الأبد \ وأنتِ وحدك السماء . \ ثلاثين سنة \ وأنت تحملينني على ظهرك كجندي جريح \ وأنا لم أستطع \ أن أحملكِ بضع خطواتٍ الى قبرك ” .