وقعة السنسات السبعة
لو أدرك “أهل النظام”، كلفة الفوضى عليهم، لسارعوا لدفع ضريبة الفوضى، حتى لا تقع لهم. حتى لا تحاصرهم. حتى لا تجرهم إليها. حتى لا يقعوا فيها.
لو أدرك أهل الفوضى، ضخامة الخسائر التي سوف يتكبدونها، جراء الفوضى التي ساروا بها، لسارعوا لفرملة العجلة التي تسابقهم إلى قيعانها. أو لسارعوا إلى التبرؤ منها. وعدم المباهاة في السير على رأسها. وعدم الإنجرار إلى فصولها، درأ لأثمانها الباهظة، حيث لا طاقة لهم على تحملها.
لو علم أهل النظام، أن خسائر الفوضى سوف تتضخم عليهم يوما بعد يوم. سوف تزداد عليهم، يوما بعد يوم، لسارعوا وإتقوا شرورها بما ملكت أيديهم. لسارعوا ودفعوها عن التخويض فيها، بالتي هي أحسن.
لو علم أهل الفوضى، أن الفوضى نفسها، ستحملهم إلى ما لا يطيقون، إلى ما لا يرغبون. إلى ما ليس لهم مصلحة به، لسارعوا وحاربوها، لا على ما كان منها، بل على ما سيكون.
تجربة لبنان بين السير بالحفاظ على النظام و بين السير بالفوضى، والتخويض فيها، حتى أخمص قدميهم، تجربة مريرة، كانت على حساب اللبنانيين جميعا، و كانت على حساب سكان لبنان، من غير اللبنانيين جميعا، وبلا إستثناءات.
كانت على حساب أهل النظام. تماما كما كانت على حساب أهل الفوضى.
إجتمعت كل الخسائر على “أم رأس”، لا اللبنانيين وحسب، بل على “أم رأس” سكان لبنان جميعا بلا إستثناء.
كان أهل النظام، تماما كما أهل الفوضى، لايعرفون، بل لا يدرون سوء المنقلب الذي إليه سينقلبون. بل سوء المسار أوالمصير الذي ينتظرهم:
تنحدر بهم جميعا، تجربة الصراع بين النظام والفوضى، حتى الدرك الأدنى، فيصبح الرغيف في السوق السوداء. وهذا ما لم يبلغه لبنان ولا جميع بلدان العالم، إلا في زمن الحروب العالمية. وفي زمن المجاعات الكبرى .
أقول: يصبح الدواء في السوق السوداء. وتصبح زجاجة الماء في السوق السوداء. ويصبح الوقود كله: البنزين والمازوت والغاز والكهرباء، في السوق السوداء.
إنتقال السوق، باللبنانيين جميعا، وبجميع من قادهم “حظهم التاعس و التعيس”، للسكن في لبنان، من السوق الحرة، إلى السوق السوداء، أول الوقوف عن جهالة جهلاء، وبلا علم، فوق الهوة. لم يتبق لهم، سوى هنيهات، متصلة بالإرتجاجات، متصلة بالزلزلات، متصلة بقوة التفجيرات، حتى يهوي لبنان كله بمن فيه. يسقط في عمق الهوة.
الصراع، إذن بين أهل النظام، ظاهره صراع، وباطنه تآزر وتعاون وتبار للإندفاع إلى عمق الهوة.
صارت كلمة “جهنم” خارج الخدمة، لأن الصراع، بما هو تسابق وصولي إستثماري، بين الطرفين، لا يتوقف إلا فوق الفوه العميق القعر، حيث سيتراكم فيها أهل النظام، وأهل الفوضى، كما يحصل في جميع الحروب:
تفتح “المدافن الجماعية” شدقيها، وتبتلع الجميع.
الفوضى باهظة التكاليف على أهلها. تجعلهم بين ليلة وضحاها، يتشهون، بل يشتهون الرغيف والحليب والدواء والأوكسجين، لأطفالهم ومرضاهم.
ما فكر الغوغاء و لا أهل الفوضى، و لا أهل الثورة بذلك. ركبوا قصب السبق وهاجوا وماجوا. وسرعان ما إنساقوا بكل جهالة: وجدوا أنفسهم فوق الهوة.
ما فكر أهل النظام، ولا حماته، ولا رجاله، ولا القوى الرديفة له. ولا القوى الخبيئة. ولا القوى الصديقة، أنهم ينساقون إلى فوهة الهوة، إذ هم ينساقون لقذف العبوات في الساحات. ولشد النشطاء من البيوت. وللتلويح بالمشانق للغوغاء والدهماء.
ما سألوا أنفسهم هذا السؤال الصعب: “من يحكمون، إذا مات الناس”.؟ ماذا يحكمون بعد موت البلاد. ما يحكمون إذا ما فتحت حفرة الموت الجماعي ، شدقيها للناس؟.
سارت الدهماء، وسارت خلفهم البلاد، وسار خلفهم النظام، وسار أمامهم أهله، إلى الهوة السحيقة، حين خاضوا ” وقعة السنتات”. وجدوا أنفسهم جميعا، يلهثون فوق فوهة سحيقة، بعد أعوام من المنازلات. يطلبون في لبنان زجاجة ماء من السوق السوداء.
ما سألوا أنفسهم: من منع عنهم الماء. من سرق “جبال الثلج” وكهوف الثلج ومساقط الثلج، من أمامهم. من إمام دورهم. من أما عيونهم. من أمام أيديهم وأقدامهم وأحضانهم.
من سرق ماء الينابيع، وماء الشبكات، وماء العيون، وماء الآبار، وحولها فورا، على عجل، إلى السوق السوداء.
ما سأل أهل النظام، ولا أهل الفوضى ولا أهل الثورة، أين تنتهي السوق السوداء لكل الحاجات؟
سار أهل النظام قبل غيرهم إلى هذة السوق، حين حملوا “الدعم” “وهنا على وهن”، حتى وصلوا به أخيرا إلى السوق السوداء.
كانت أعوام أهل النظام تمضي بهم. تسقط أعمارهم واحدا إثر واحد، ولا يستفيقون على رشد، ولو كان ب”منعرج اللوى”، حتى وجدوا أنفسهم فوق هوة الهوات، بعد فوات الأوان.
كانت أعوام الدهماء كذلك، في “وقعة السنسات”، تمضي بهم، من ساحة الشهداء، إلى سائر الساحات، التي إستحدثت على عجل. التي إتحدت على عجل، بموجب صافرة صفرت لهم.
نزلوا جميعا. أحرقوا ودمروا. وقطعوا الطرقات. وقطعوا الأوصال. وقاطعوا أيضا. قادوا الدهماء إلى المصارف والبنوك وإشارت السير، ومقاعد المسنين والأطفال والعجزة، على الطرقات، فأتلفوها وحطموها ونهبوا حديدها خردة، وخربوا محولات الماء والكهرباء. فككوها وسرقوها. وعطلوا المنشآت والإدارات والوزارات، فضاعت البلاد، ولم تجد نفسها إلا فوق هوة سحيقة، ليست لها قعر.
لا أتحدث عن الوزير “محمد شقير”، وكيف أطلق الرصاصة الأولى، في ملعب أهل النظام، وأهل الفوضى، فخاض الجميع معركة السنسات. ثورة “السنسات السبعة” التي هوت بالبلاد.
لا أتحدث عن الأحزاب، وكيف قادت الغوغاء في “ليلة ليلاء”، إلى تخريب البلاد.
أذكر إذ أذكر، أنه كان بجانبي، زميلي، من قادة الأحزاب، الذي ظل يخبط شارع الحمرا بقدميه كل مساء، ثم تكون له إستراحة قصيرة، لأخذ النفس في المقهى.
سألته عن واجهات المصارف، وعن الحاويات وعن علب البلدية، وعن إشارات السير. أجابني بإختصار: “سرق النظام وأهله البلد، وأنت تسألني عن لوح زجاج”.
ثم إلتقيته بعد ثلاثة أعوام. أعدت عليه السؤال. فقال: “ما عرفت ما سوف يحل بالبلاد”. علمت عند ذلك؛ أنه من مدرسة “…..”.
وقعة السنسات، من يلمها اليوم من الطرقات، وقد صارت من الماضي، بعدما تخطى الدولار العشرين.
وقعة السنسات، صارت أقل من شرارة، تحرق مرفأ بيروت، تحرق الغابات، تحرق بلدة التليل. تضوئ على هوة سحيقة، تلتقم البلاد.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية