المتعة والافتتان في رواية فاتن..
……………………………
بقلم : أحمد رحماني
……………
الكتاب: فاتن
المؤلِّف: أمين غانم
الجنس: رواية
عدد الصّفحات: 177
صادرة عن دار نشر ليندا عبد الباقي.
الكاتب يدفع بي نحو التّخلّص من غرور الكاتِبين ومحو عمشهم ونفض غبار الكسل عنّي، ينوي مخلصاً إشراكي في التّمترس بنصّه والتّدرّع خلف الجمال والافتنان برائعته “فاتن”.. ألفيتُها كمثل ملكة (… كشفت عن ساقيها)، أمام هذا الإغراء البريء لن أجد نفسي إلّا منقادا، منصاعا، وفيّاً لحميميته التي اجتباني إليها فضلاً وصداقة، وأمام مُنْجَزه الجميل لا أجد من ردّ جميل سوى هذه “البْشارة” كما يفعل عندنا كلّما بُشّر أحدنا بنبإٍ يجلي الغمّ ويثلج الصّدور، وأقول:
رواية الحرب في زمن الهروب من الحرب، حين التّلبُّس بقشابية الرّبيع وبردة البحث عن السّلم، لكنّ الذّكريات رغم الدّاء والجراح شغف الماضي.
لوحة من المشهد،هدى الأنموذج الأنثوي الخصب لإحدى حالات الجنوح للسّلم وسط هالة الحرب والاستظلال بفنن المكان غير الوارف (هي كلّ شيء وخاتمة كلّ الأشواق في القصص والرّوايات)…، عمر الذي تنازل عن زمنه الأوّل يلج عالم هدى وكأنّه لم يكن ذاك المتديّن ينجذب إليها عن طواعية.
الفتنة النّصّية تحيل القارئ إلى التّواري بالمحمول الفلاشباكي الرّائع في التّنقّل من ضفّة إلى ضفّة أخرى بين العتبات النّصّية دون الشّعور باختلاف المناخات الزّمنية ولا التّضاريس المكانية (هكذا قاطعني صديقي، أجبته وأنا في ذروة الكتابة عن ميّ…)، إنّها لحظة التّجول على ركح مسرح الحب ومساحات المشاهد إذ المتّسع الكافي للتّعبير والتّصوير.
رواية التّحوّلات المفتنية بظهور فاتن لتكشف عن تلاقح المفاصل..
رواية وكأنّك مبحرٌ في أطالس أدب الرّحلة..
رواية التّأريخ للمعاناة والمعاملات والشغف بالمغامرة ماركوبولية العروبة..
رواية الشّغب والفزع وروع الذّات..
رواية الوعي والأخذ بمرسن الحياة..
رواية انقياد الإنسان إلى عرين لبؤته..
رواية التّواصل والافتراض والانضمام والانقراض..
رواية التّطوّع العضوي والإرادة والواجب المحموم..
وأنت تجول في أغوار فاتن فإنّك لا تحتاج إلى دليل فنّي يقودك إلى فهم الحيثيات وتلصّص طقوس الفنّيّات، وحدها تحيلك إلى التّجديف ومن ثمّ ممارسة الاستجمام، تحت جارف شلّال اللّذّة، والتّدثُّر بمرشّ المتعة، وما يقذف على كاهلك من رذاذ العدوى الذّوقية.
تصاب بالتّورّط والتّفاعل وتعترف بالتّشارك المفضوح، تشي ضدّ نفسك ويتسرّب من لسانك لعاب حبرك في حال الاستنطاق بقوّة “سهلِ” الرّواية وجبروت “ممتعِها”.
وعلى أثر ما سبق، إنّي أرى أنّ جنس الرّواية يُكتب لأكبر فئة من القرّاء بعيداً عن حصره في ظاهرة التّفييء والانتقائية الممجوجة ومحاولة جرّ النّقّاد واستجلاب إطرائهم اليائس.
“فاتن” رواية لا يضيع في خطابها القارئ ولا يقصيه التّسرّب ولا التّسيّب المقروئي، رواية تمسّ كلّ الفئات، ولا تُحيِّز البشرَ في بقعةٍ محدودة نسمّيها ب”النّخبة”.
(فمن حثّتني على قراءة قواعد العشق للدراية بنوعية مختلفة في العشق الرّوحي، تحضر الآن لمن تصفّح مكنونها)، معاناة عسر التّلاقي وانقطاع النّتّ بافتعال واهي الأسباب، الحراك في بعض جغرافيا الرّافدين، ومفعول الرّيوب بين العاشقين وتبادل تهمة الاقتباس ومسح نصّ قبل بزوغه، وتقطّع جمل الاشتهاء تحت وطأة الجفاء للحيلولة دون التّواصل بين طرفين وبين شقّي الكائن الواحد، إنّها الخارطة المرسومة بمقياس خطوط مشرقية محسوبة بدقّة القَدَم والبوصة على مقاس تضاريس قمعية.
ولأنّني من المؤمنين بالكينونة الإنسانية والانصهار الاجتماعي للرّوائي لا يسعني إلّا القول: هو كائن حامل رسالة إذ لا يمكنه التّخلّي عن النّاس، ينبغي عليه البقاء منهم والتّمغطس إليهم والتّخندق بينهم وفي صفّهم، إنجازه يتهافت عليه المعضوضون بأنياب القراءة ويتلقّفه الباحثون في العالم مهما تكنِ اللّغة التي يؤلّف بها ويعتمدها لسانا في خطابه ما دامت تحمل القيم والهموم المشتركة باعتبار الحقّ واحداً لا يتجزّأ.
(جثث القتلى في تزايد… صورة بارزة لكلب سمين ينهش واحدةً منها).. حيثٌ من خطاب الرّواية يعرض منظراً بشعاً يزرع القشعريرة وينفث الغثيان ويرغم الآدمية على الخروج من قشرتها، تنديداً..
منظر يشهد على أفاعيل زبانية الطّيش الممنهج، لا أظنّ الأستاذ “غانم” يناشد العاطفة البشرية بافتعال المشاهد الدّرامية التماساً سِدانةَ إطفاء جذوة الحرب ممن أضرمها..
خطاب يدعو بالأساس والأولوية الفنّيّة إلى اجتثاث القنابل من مأسورات الرّشّاشات وبيوت نار المدافع وزرع الزّهور في أروقة السّلم وتهوية الضّمائر برياح الأمن وتيّار الأمان.
(وجود عدّة شخصيات نسائية داخل العمل، تبدو ملاحظة جوهرية مهمّة، يتحتّم عليّ إزالة فقرة بيلا وميّ والإبقاء على اثنتين فقط، هدى وفاتن…)، القرار الطّوعي الذي حتّمته الغيرة.
تغار المرأة لأنّها على دراية بكيد النّساء، وتغار أكثر لمّا تكتشف خبث الرّجال، ومهما تكنِ الثّقة في الحبّ تبقى الغيرة فوقه كمِثل حاجب يعلو العين.
الغيرة في الحبّ تجعل المرأةَ كالطّفل لا يرضيها سوى الامتلاكِ، فاتن تغيّر مجرى الحياة وتجرف بمسار مشروع رّواية.
(ما تفعلينه شيء مدمّر، الكاتب كائن حسّاس لا ينتظر هجوماً شرشاً في لحظات انشغاله بذاته) التأرجح العاطفي بين شخصيّتي هدى وفاتن صنع الفارق ودوّن ما عاشه عادل من تناقضات سجّلت على صفحات المفارق والمتفائل.
وأنت تقرأ فاتن تجد روحك تعوم في خِلجان العذاب وتستعر في حمم التّصاريح، البوح الذّكيّ والتّمنّع الكاوي، سذاجة رجل بين مدّ فاتن وجزر هند، معضلة الموقف في مهبّ التّيّارات القاذفة نحو الصّخور وكاسرات المرافئ الجامعة بين لين الوخز ورعونة المرونة.
إنّها الوشاية الموصوفة من عادل بنفسه، والقراءة اللّاذعة من فاتن قاطعة شعرة الوصل بفيصل اللّوم وبطش الامتلاك والتّواصل القاصم لبعير السّذاجة ولظهره الهشّ، سذاجة رواية فتحت قلبها، لعلّها… ولكنّها.
وختاماً
خذ بناصية النّسيان، وافسخ عقدكَ مع سابق ما قرأتَ وجدِّد تحالفك مع القراءة مدبجاً ما تروم من متعة برواية فاتن.. ومنها وحدها