قراءة في أعمال الفنان التشكيلي اليمني “حميد عقبى”:
كيف تفاعل تجريده التعبيري مع الشخوص واللون والضوء؟
كتب الناقد الثقافي نظام مارديني:
من يتعرف على الفنان التشكيلي اليمني، حميد عقبى، لن يتوقف عند مجرد لوحته بمضامينها الغنية بألوان “قَوْسُ قزح” فقط، بل عليه أيضًا أن ينظر إلى هذا الفنان المتعدد الاختصاصات والمواهب والتجارب التي يعرضها في قضايا المسرح والسينما والندوات، وكأننا أمام شخصية تحتفي بذاتها في كل لحظة وهي ترشح طاقة جمالية وإنسانية… ويمكن القول أن مثل هذه التجربة تستدعي الكثير من التأمل والبحث، عن هذا الفنان الذي صنع لنفسه مسارًا صقلته تجربة واسعة وعميقة عتقتها خبرة اكتسبها في ذلك الفضاء الفرنسي/ الأوروبي.
إن الحديث عن هذا الفنان الجميل والمتواضع “عقبى” لا يمكن فصله الآن عن تأثيرات البيئة الأوروبية الحاضنة له، حيث لعبت دورًا جوهريًا وبارزًا وفاعلًا بتكوين فلسفته التنويرية الحداثوية التي انعكست بدورها على التحولات الظاهرة والسريعة رؤاه المعرفية في قضايا الفنون عامة.
وكل هذا يسلط الضوء على هذا الفنان الذي يتفاعل التجريد لديه مع الشخوص واللون والضوء من خلال العناصر التكميلية الأساسية التي تتحمّلها الفكرة والمفاهيم بتمازجاتها التعبيرية، والتصورات التعبيرية في التجريد هنا تأتي انعكاسًا للضوء. ولكن هذا الضوء ليس فقط أمرًا بصريًا فيزيائيًا أو كيميائيًا، بل هو أولًا مسألة إدراك لما يحيط بالفنان من أفكار بحيث يوظّف التوترات الإنسانية التجريدية وينسّقها بما يليق وطبيعة اختياراته الملونة، والخطوط المتراكمة لا بد أن ترفع البصر نحو الأبعاد الضوئية.
حكايات بصرية داخلية
وهكذا، فكل لون في منجزه يحاول أن يستدرجه نحو أقصى حواف المساحات بحدّة عميقة لا تثير التوتّرات الداخلية بقدر ما تستثير العمق المتفاعل معها، فهي مجرد حكايات بصرية داخلية تنتعش بالفكرة وتنطلق بالمفهوم وتستمر في اللون والحركة والفراغات المصطنعة في ذاتها لتغري العين بالسطح وهي تستدرج الذهن نحو العمق، خاصة وأنه من خلال الأبعاد يعتمد ذات الأسلوب في تعميق الداخل.
لوحة الفنان حميد عقبى، من حيث دلالاتها الضوئية والحسيّة تخرج من العتمة والفضاءات الداكنة نحو النور لتنعكس في تجريديتها التعبيرية في حركة اللون والفراغ والمساحة وأبعادها وأطرها التي تتوافق في الحركة الزمانية والمكانية مع الذاكرة الإنسانية سواء الفردية أو الجماعية لفكرة الوجود ككل، وهي لذلك نراها، أي اللوحة، كيف تستفزّ صخبه الداخلي لما يحدثه الواقع اليمني من ترددات إنسانية عميقة.
لا شك أن تشكل اللوحة لدى الفنان “عقبى” باعتبارها حدثًا وذاتًا مكملة لموضوع الرؤيا التي يعمل عليها. وهي علامة تنير المسارات ومرآة تعكس ذواته لتشفي روحه من أوجاع الواقع فينتصر على “خساراته”، وبهذه الرؤية فإن امتلاك ألوان عديدة سيمكّن الفنان من خزّان للمعنى ويوسّع القدرة على التفكير في المضامين التي يبحث عنها داخل الروح الإنسانية.
من ينظر إلى لوحاته، سيرى بالعين المجردة حكايات إنسانية حقيقية تستمد قوتها من الموروث الموغل في التاريخ، تحاكي أسطورياً “حضارة سبأ” لتستعيد لنا، وتستحضر ما ضاع من رؤى، ولكن بلغته ورؤاه الحداثوية والعصريَّة.
لا غرابه ان نجد لوحات الفنان (حميد عقبى) تزدحم بالتفاصيل – دائمًا- وكأنه يريد ان يقول كل شيء دفعه واحدة عبر وجوه متحررة من أي تقييد، متجاوزًا العلاقات الشكلية بين المسافات والخطوط والألوان مبدعًا اشياءه الذاتية كمادة فنية منسجمه ومستجيبة لجمالية تثير تساؤلات واسعة لدى المتلقي.
تأتي أعمال الفنان “عقبى” بانسيابية خيالية في التوصيف البصري وهذا ما يمثل محور عمله الفني. إن التجريد عند الفنان لا يعتبر محاكاة فنيه لشيء ما بل هو غاية للوصول إلى فن مفاهيمي يعبر عن ذات ويسعى لتقديم نماذج تحمل بين تدرجاتها اللونية معانٍ جديدة وإضافات مبتكرة من خلال النظر في كل جزء من أجزاء اللوحة ومدى ملائمته لخدمة الموضوع والوصول الى الهدف، من تلك الاضافة وهو إظهار تجليات الغموض والقلق والخوف والفرح الانساني، عبر طغيان واضح للألوان الصريحة، التي تشير بوضوح لمخزون الذاكرة البصرية اليمنية المعروفه بسطوعها اللوني.
يقول الفنان والناقد طلال معلا في كتابه القيّم “لغز الفن” ص 18، “إذا كانت المفاهيمية نتاجًا حقيقيًا لفلسفة التذمر والرفض التي انعكست في السينما والمسرح والأدب والفن وتجاوزت المحامل التعبيرية التقليدية لتدخل مجالات تقنية، وتعبر عن السقوط النبيل للإبداع، وتطلق فرحة النصر بالتحرر من الحداثة إلى ما بعدها، فما هو الدافع الذي يبشر بحركات تشكيلية جديدة على المستوى العربي؟” فلماذا لا يعتبر الفنان “عقبى” من هؤلاء الفنانين المشبعين برؤى تشكيلية جديدة وهو الغني بالثقافة الأوربية ومدارسها الفنية المتعددة؟
رسومات التشكيلي الخلاق، “عقبى”، تحمل في خصوصيتها نكهة أرض اليمن الطيبة المعطاء، وكأنه يقول لقد حققت لي هذه الخصوصة اطمئنانا داخليا بانني لا اخلو من جذور تاريخية. بل أنه ينتمي بالوراثة لهذه الجغرافية الممتدة في الزمن، ولكن ما هو موجود في الأساطير القديمة والاحداث التاريخية موجود أيضًا ومعاصر لكن تتغير مساراته.
وهذه الروح المتوثبة من الطبيعي أن تنعكس في التنوع الذي يصاحب تجربته، التي يعكف على بنائها بتؤدة، ووعي جمالي، وفكري ضروري لإنضاج أعماله، ومنحها بعداً وجدانياً. وقد بدت أعماله ضمن السياقات التجريدية محمـــلة بفلسفات قيمـــية وفنية تستجيب لضرورات العمل الفني، الذي يتفاعل مع الثقافة التشكيلية المعاصرة.
تعتمد التجربة التشكيلية للفنان على أشكال تجريدية، مدعمة بوظائف بنائية تخول لها الاشتغال في المنحى التجريدي وفق مقومات تعبيرية، فتتبدى مختلف الجماليات في التوزيع اللوني الدقيق، والخطوط والحركة والخيال، وفي التقاطعات والتوليف بين مختلف المفردات التشكيلية والعناصر الفنية، التي تشكل العمل في مجمله، فاللون يقود المتلقي بشبه موسيقى هادئة الى اللوحة، وهذا شأن طبيعي.
إن التفاعل مع التجريد بعناصره اللونية والرمزية والعلاماتية بنوع من المرونة التشكيلية، يبرز القدرة الفائقة في تعبيرات المبدعة، ويبين أسلوبه التجريدي التعبيري المميز، الذي يسهم في إرساء مسلك تشكيلي يقوم على المعارف والعوالم الدلالية.
إن الفنان التشكيلي “حميد عقبى” يُعبّد طريقًا فنيًا قوامه التجريد بأبعاده الدلالية التعبيرية الواضحة.. فلنتابع خطواته!