الفرار هربا
يشهد لبنان، منذ أكثر من عام. بل منذ إنفجار المرفأ في الرابع من آب، موجة تلو موجة من الهجرة و الفرار.
ما ذاق شعبه ذلك، إلا في مطلع كل حرب. وقعت فيه. أو وقع فيها. أو أوقع به فيها وعليها.
أصعب الحروب وأقساها عليه، كانت حروب الفتنة. كانت حروب الأهل.
لبنان، يشتم أهله الآن، أنه يحضر للإيقاع بهم في فتنة. في حرب. يعملون لجر الحرب إليه. جرها إلى داره، إلى جبله، إلى مدنه وقراه. جرها إلى داخله. جرها إلى ساحله.
اللبنانيون يشعرون اليوم، أن الحرب في طريقها إليهم.
بدأت علاماتها تظهر في أسواقهم. بدأت علامات الحرب تشوش عليهم: في المدارس والجامعات. في المعامل والمطابع، والصحف والصيدليات، والمستشفيات.
صار الحديث عنها، حديثا يوميا. حديثا شعبيا. حديثا رسميا.
صار الناس يشتمون رائحة الحرب المسرجة إليهم و عليهم، من علامات المجاعة التي أخذت منذ عام، تضربهم.
فلا توفر أحدا منهم. لا الصغير ولا الكبير. ولا الشباب ولا العجائز. ولا الفقراء ولا الموسرين.
أخذت المجاعة تقرع أبواب الجميع. تدق جدرانهم بقوة وتدعوهم للرحيل.
نذر حرب، ونذر مجاعة، ونذر تعطيل وتسيب. ونذر فشل وتفشيل، تعم لبنان اليوم دفعة واحدة. فلا يكون أمام الناس سوى الإسراع في طلب الهجرة و الرحيل.
هذا العام، إفتتح موسم الهجرة باكرا. موسم الهجرة إلى الشمال. أدركوا مع “الطيب صالح”، أن العيش لم يعد طيبا في الجنوب.
أقسى ما في الهجرات اليوم، أنها لم تعد متاحة للجميع. صارت الطلبات تخضع لشروط.
فرار الطلاب على وجه السرعة. وإخلاء جامعات لبنان، لأن الحالة فيها لم تعد تطاق.
فرار جميع أصحاب الشهادات. جميع أصحاب الكفاءات، بحجج تعلم اللغات، ثم التوطن هناك، على أرض اللجوء.
قطاعات الأطباء والمهندسين والمعلمين، وأساتذة الجامعات، وأصحاب المعامل. وأصحاب الشركات. كلهم يفرون. كلهم يريدون “النفاد بريشهم”، قبل أن تطبق عليهم الحرب بفخها اللئيم.
على أبواب الشتاء، وصلت نذر الهجرة من الأرياف. لا يستطيع الناس الوصول إلى المازوت، ولا إلى الكاز. ولا إلى الغاز. ولا إلى البنزين. ولا إلى أي نوع من أنواع الوقود.
فقدوا شروط الصمود والبقاء، فهم يستعدون للفرار.
الفرار هربا، بلا سابق إنذار، ولا سابق نذير.
صمود موقوف. مفقود. في الأرياف هذا العام، بفقدان المازوت.
ما هذة الجائحة التي تلطم وجه لبنان بقوة هذا العام: الفرار هربا من قسوة البرد والزمهرير. أم الفرار هروبا من قسوة الجوع وفقدان الرغيف. أم الفرار هربا، طلبا للعلم والعمل. أم الفرار هروبا من الحرب. رأوها تطلبهم منذ عام، بعد تفجير المرفأ. أضرمت نارها في أجسادهم. وهي تهيب بالجميع، للذهاب معا إلى “الأتون”.
الفرار هروبا من “الجحيم الموعود” . ترى اللبنانيين اليوم، أمام مكاتب السفر. أمام مكتب السفارات. أمام دور الصيرفة لطلب العملات، أمام المكتبات، لا لطلب الدفاتر والأقلام والحقائب والمحابر لأولادهم، كما كل عام. بل لشراء حقائب السفر.
الفرار هربا هذا العام، لأن الجحيم صار على الأبواب.
يريد اللبنانيون أن يدعوه لأصحابه، حتى ينالوا به ما تمنون.
الفرار هربا، طوق النجاة. فلم يعد من أمل يرجى، بعد تجديد الحرب للأزمنة المقبلة.